الهجوم علي الشيخ الشعراوي

على هامش موضوع الشيخ #الشعراوي رحمه الله
لدي منذ فترة مجموعة أمور تدور حول شخص الشيخ الشعراوي ونموذجه، لكن لم يكن ثمة سياق مناسب، فجاءت إثارة الموضوع الآن فرصة لأقول بعض هذه الأمور، ولهذا، فهذا المنشور لن يخوض في المعركة الحالية، إنما هي محاولة لفت النظر لأمور أخرى:
(1)
بعض الشخصيات يشاء الله لها أن تكون علامة في وقتها، الأمر يتعلق بمجموعة من الظروف تلتقي بمجموعة من المواهب فتخرج هذه الحالة.. هذه الشخصيات تمثل علامة على ما هو أكبر من شخصها، تمثل علامة على اتجاه أو تيار أو حالة.
حين يُذكر الشيخ كشك مثلا، لا يخطر على الذهن مسألة تقييمه علميا أو خطابيا أو لغويا أو مذهبه العقدي أو الفقهي.. يخطر على الذهن مباشرة جرأة الشيخ في سب الحاكم المطلق لا يخشى في الله لومة لائم.
هذا المعنى هو في ذاته ما يمثل شرف العلم وشرف المشيخة، وهو ما يُستدعى في النوازل، وهو ما يُشتاق إليه في أزمنة الخوف والجبن.. في الليلة الظلماء يُفتَقَد البدر.
شاءت عدد من الظروف مع عدد من المواهب أن يتمتع الشيخ الشعراوي بمكانة لا مثيل لها في مصر، لن أدخل الآن في هذه الظروف، لكن الذي يهمنا الآن منها أنه إذا ذُكِر الشعراوي ذُكِر العالِم الذي يستطيع تبسيط الدين وصياغته بلغة يفهمها الجميع وهو محتفظ في نفس الوقت بمقامه ومكانه وهيئته العلمية..
لما اختفى مثال الشعراوي ظهر مثال عمرو خالد.. عمرو خالد كان حالة ممتازة كاسحة في مصر ما قبل 2010.. وجد الشباب في عمرو خالد داعية يستطيع أن يحكي الدين بشكل غير مسبوق، دين جميل لطيف ممتع مليئ بالحب والسلام والصداقة والبراءة والإنجاز والنجاح والكفاءة والتفوق.. الدين المناسب لمزاج شاب من طبقة وسطى أو غنية تتحدث الإنجليزية في مصر وتطمح في بناء إنجاز على النمط الرأسمالي.. النمط العالمي!
هذا النمط كان يشعر دائما أنه غريب عن المجتمع، أو بمعنى أصح، أنه لكي ينجح فلا بد له من مفارقة هذا المجتمع شعوريا أو شعوريا وماديا معا، فهذا المجتمع غير مناسب له، هذا مجتمع فيه قدر من الترابط والتماسك يمنعه من أن يفعل ما يريد في الوقت الذي يريد، مجتمع فيه قدر من السقوف الحمراء التي تجعل تصرفاته موضع مساءلة ومحاكمة وتستدعي النظرات الغاضبة والمشمئزة، مجتمع شكل المتدين فيه شكل مناقض لشكل الشاب الناجح كما ترسمه الأفلام والإعلانات الأجنبية.. وهكذا!
كان عمرو خالد طوق نجاة لهذه الشريحة.. قدم لهم الشكل الأنسب من الدين الذي يجمع في خيالهم بين ارتباطهم الاجتماعي وأصولهم المسلمة وبين طموحاتهم العالمية المتفوقة وإنجازهم المالي والاجتماعي المنشود.
لكن عمرو خالد فقد في مسيرته أشياء، أهمها في موضوعنا الآن شيئان، الأول: أنه لم يكن عالما بالدين، هو نفسه يعرف ويعرف الذين يستمعون له مهما أحبوه أنه ليس فقيها وأن كلامه في الدين فيه هشاشة تخدش الثقة. والثاني: أنه لم يصمد في اختبار السلطة، لقد سعى لأن يناور ويراوغ كثيرا لكنه عند الاختبار اصطف مع السلطة منذ 2010 إلى ما بعدها.. وهنا وقع السقوط الكبير!
الشعراوي لم يخطئ هذيْن الخطأيْن، الشعراوي أزهري عتيد، متشربٌ للعلم الشرعي، مُعترف له بالمكانة العلمية، حتى في البيئة الأزهرية.. لذلك فباب الدخول له من ناحية الجهل مغلق (وهذا أحد أهم أسباب توتر العلمانيين في الهجوم عليه، يسهل عليك أن ترمي فلان بأنه سلفي وفلان بأنه داعشي وفلان بأنه لم يتعلم الدين.. لكن الشعراوي خريج القلعة الأزهرية أمر آخر).. ثم إن الرجل حافظ على مسافة واضحة بينه وبين السلطة فلم ينكسر أمامها ليدخل تحت جناحها، فظل غير ملوث بها.. والسلطة أنجس ما يلوث العالِم وأفحش ما يخدشه ويكسره في عيون الناس.
ثم، الشعراوي هو الذي نزل بالخطاب الإسلامي لمستوى عموم الناس، المستوى الذي يفهمه الجميع، أمثاله الشعبية، تعليقاته الساخرة، ابن القرية الفلاح الذي صار شيخا ولم ينس القرية ولا أمثالها.. الشعراوي كان يخاطب مجتمعا لم تنخره الطموحات الرأسمالية الجديدة .. نموذج المجتمع الذي يخاطبه الشعراوي هو نموذج المجتمع المصري الطبيعي الذي يحلم بأن يعيش في بلده الشرقية المسلمة المتماسكة اجتماعيا حتى لو اضطر أن يهاجر زمانا لضرورات اقتصادية ثم يرجع مرة أخرى.
فارق واضح بين المجتمع الذي كان يخاطبه الشعراوي وينطق بلسانه، وبين المجتمع الذي كان يخاطبه عمرو خالد..
لهذا كان مجتمع الشعراوي متقبلا تماما لكون النصارى أقلية ولكونهم ينبغي أن يدفعوا الجزية، ولكون الشريعة يجب أن تطبق فتقطع يد السارق ويجلد الزاني ويقتص من القاتل، ولكون الحجاب فوق كونه فريضة فهو تعبير عن فضيلة المرأة بل والحجاب هو مقياس رجولة أخيها وأبيها، ولكون الأفلام والمسلسلات مجرد قاذروات فاحشة وأمور منحطة على المرء إذا تلوث بها تحت ضغط الشهورة أن يسارع فيتوب ويندم، ولكون إسرائيل عدو والسلام معه مؤقت بينما اليهود هم أعداء الله وأعداء المسلمين، الغنى يجب ألا ينسى الفقير ولكن قبل ذلك يجب ألا ينسى الله وهو في طريقه للغنى... إلخ!
هذه المعاني يستنكرها مجتمع عمرو خالد، مجتمع عمرو خالد يبحث عن الحب والوئام والمواطنة السعيدة، الجزية شيء تاريخي قديم وانتهى، الآن كلنا مصريون، الأفلام والمسلسلات فن جميل "محتاج بس شوية تعديلات، وممكن تامر حسني يعمل تتر برنامج دعوة للتعايش" (ركز: التعايش)، الحجاب فرض نعم لكن لا يعبر دائما عن فضيلة المرأة ولا يعبر طبعا عن مستوى رجولة أخيها أو أبيها (مش عايزين ضغط ولا إكراه ولا إجبار على أي حاجة تخص الدين.. الدين حب يا جماعة).. إسرائيل صحيح عدو، لكن اليهود أصحاب ديانة سماوية واحنا بنحترم أهل الكتاب.. التفوق المالي حاجة عظيمة مطلوبة في الإسلام، ونجاحك المالي هو نجاح لكل المسلمين!
هذا الفارق قد يكون غير ملموس في الجزئيات، لكن الاتجاه العام متعارض بوضوح.. هذا اتجاه يزيد من استمساك المجتمع الشرقي المسلم بالإسلام، وهذا اتجاه يزيد من فرادنية النموذج الغربي الغالب ويقدم إسلاما مناسبا له.
اضطررت أضرب المقارنة بعمرو خالد لسبب واحد.. أن نراقب تطورنا الاجتماعي، وأن نشاهد أنفسنا ونحن ننحدر.. إن كلام الشعراوي الذي كان عنوان الوسطية والاعتدال في زمنه سيكون هو هو عنوان التطرف والتشدد في زمن آخر، زمنٌ أنتجت فيه السلطة عبر التعليم والإعلام والأفلام والروايات وسائر الظروف التي تصنعها جيلا مختلفا مستعدا لمفارقة مجتمعه والانخلاع منه والهجرة إلى النموذج المتفوق اللامع الذي يعرب عنه الغرب: أوروبا وأمريكا.
ولو استمر السيسي في الحكم زمنا فعمرو خالد نفسه سيكون علامة على التشدد والتطرف، وأما الشعراوي فسيكون المؤسس الحقيقي لفكر التكفير بل المؤسس الحقيقي لداعش.. السلطة الآن تنتج حالة من الإلحاد الغبي (إلحاد + غباء) الذي كلما حاول المرء أن يتخيل حجم السواد فيه يتقاصر عقله عن الخيال.
نحن الآن في عصر توفيق عكاشة ويوسف زيدان وسعد الهلالي، حيث المسجد الأقصى ليس في فلسطين، وصلاح الدين أحقر شخصية في التاريخ، وزواج المسلمة من المسيحي ممكن فالحب إرادة قاهرة على القلب، والتحول الجنسي حرية شخصية، واللواط ممكن يكون نتيجة جينية، والخمر جائزة عند بعض المذاهب، والزنا جائز بالواقي الذكري عند بعض المذاهب.. وأمور أخرى كثيرة.. سيكون معها الذين يشاهدون دعوة للتعايش لعمرو خالد متطرفين!
هذا المجتمع الذي يتشرب هذه الأفكار لن يمكن أن يفهم الشعراوي..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فائدة تتعلق بالأقارب الفجار والمناوئين للشريعة

رسالة الى اهل غزة

وظايف مصر والخليج ليوم الاثنين 30/12/2019