من الذي يصنع المشهد؟

من الذي يصنع المشهد؟
السؤال الوارد في المنشور السابق عن مساهمة "الدعوة ومن يُنسب إليها" في تشكيل الواقع الفكري والقِيمي لرجل الشارع و"للنخبة"، فهمه بعض الإخوة أنّه متعلق بمساهمة بعض الجماعات والتيارات الإسلامية في صناعة ذهنية العامة والنخبة مقارنة بمجموع مساهمة هذه التيارات نفسها، في حين أن السؤال كان في الحقيقة عن مساهمتها في صناعة هذه الذهنية مقارنة بكل المؤثرين في المشهد، بما في ذلك مساهمة العالمانيين وغيرهم..
ومع احترامي لكل رأي قيل، فإنني منحاز بشدة إلى الفريق الذي يرى أن مساهمة من سبق ذكرهم في صناعة هذه الذهنية لا تتجاوز 10%، وأنّ أعلاهم تأثيرًا "الإسلام الرسمي" من خلال المنظومة التعليمية وبرامج "الدين!" على الفضائيات، والمواسم ذات الصبغة الدينية كرمضان والعيدين والمولد ورأس السنة الهجرية والإسراء.. وبعد أن يغادر المرء مقاعد الدراسة قبل الجامعية، وينتهي دور حصة الدين في تلقينه المعاني الدينية (بلا روح)، تنتهي بصورة كبيرة مرحلة التلقي المتدفق، ويبقى لجميع الروافد الإسلامية الأخرى تأثير ضعيف جدًا، وإن كان يُحقق في بعض الأحيان فورة في النفوس توهم أنها تأثير حقيقي، لكنها سرعان ما تهمد، ليعود الحال إلى ما هو عليه سابقا (التجربة المصرية أيام حكم الإخوان، والصعود العجيب للإخوان والسلفيين في حس العامة، ثم سفول هذه الشعبية إلى صورة دنيا بعد سنة واحدة، خير مثال).
الجماعات الدعوية والسياسية الإسلامية حضورها هامشي في وعي الناس، وتأثيرها في الأفراد لا الجماعات، ومن أعظم الوهم نسبة تعاطف رجل الشارع معها إلى نجاحها الدعوي، بل العكس هو الصواب في الأغلب هذه الأيام، وهو أن هذه الجماعات تستفيد من العاطفة الدينية للناس في الانتخابات وغيرها، ولا ترتقي بوعي العامة إلى مستويات أعلى..
استغلال التيارات الصوفية من طرف الأنظمة في السنوات الأخيرة لم ينجح في تحقيق مراده لسببين رئيسيين، أولهما المواقف المخزية لعدد من رموز الصوفية في مصر والشام، ودخولهم تحت مشاريع أنظمة تتبنى نشر الإلحاد (لا العالمانية فقط) أو تعلن فتكها بالمسلمين دون استحياء، وثاينهما انصراف كثير من الشباب عن التديّن عامة ومن الصوفية وما ارتبط بها في حس الناس من سلبية أمام الواقع خاصة، مع غياب نماذج صوفية تمثل حالة من الوعي بالواقع وتحديات العصر..
الأفلام والمسلسلات وبرامج التوك شو ومسابقات الأغاني والتمثيل (أراب آيدول) لها تأثير قوي في ضخ مفاهيم العلمنة ومابعد الحداثة بصورة غير مباشرة .. والقائمون على هذا الانتاج الترفيهي ينفقون مئات الملايين لأغراض تجارية وقيمية... ومن خلالهم تتسلل التيارات الليبرالية والحداثية والإلحادية بعد أن تمت تهيئة الظروف لها للعمل.. ولولا لطف الله سبحانه بهذه الأمة أن جعل في قلوب العامة ركونًا إلى بعض ثوابت الإسلام؛ لحدثت الكارثة لأنّ حجم الهدم أوسع وأعمق من جهد البذل للإصلاح، خاصة بعد أن تحوّلت هموم عامة "الحركات الإسلامية" إلى تحقيق البقاء ومقاومة أسباب الاندثار..
ولا حلّ لهذا الانحدار والتآكل سوى أن تخرج الدعوة عن الأصنام الحزبية إلى فسحة الإسلام، والعمل في حدود الطوق لاستنقاذ ما بقي، بعد أن دخلت الدعوة مجال "الصفقات" و"الموازات" التي تنتهي دائمًا بتقزيم الجهد الدعوي..
وخروج الدعوة عن الشكل الحزبي (الحزبي=التكتلات الكبرى التي تزعم أنها تملك برامج تغيير حقيقية لواقع الأمة كله) إلى تكتلات صغرى تهتم بمقاومة الفساد العقدي والقيمي والتربوي... شر لا بد منه؛ فإنّ هذه التكتلات بحجمها الصغير ستكون عاجزة على المستوى القريب عن إيقاف هذا الهدم السريع، لكنّها الخيار الوحيد الممكن في مقابل "جماعات الوهم" التي تصحو في موعد الانتخابات، ثم تعود إلى نومتها، أو التي لا تُعرف إلا في مواسم "البدع والمحدثات" لتجادل فيها، ثم تعود إلى نومتها.. التكلات الصغيرة ستكون أبعد عن أمراض "الصفقات"، وستستفيد بصورة أكبر من مساحات العمل على وسائل التواصل الاجتماعي بعد أن تم القضاء على منصات المساجد، وستستفيد من الشباب المخلص لله (وحده) من إخوان وسلفيين وغيرهم، بعيدا عن الولاءات الحزبية أو المشيخية..
نحن بين خيارين، بين أصنام "لا تهش ولا تنش"، وحدود دنيا من العمل يصعب تجييرها لخدمة الطغاة، ولكنها تعمل لله، لا للحزب ولا للقادة ...

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فائدة تتعلق بالأقارب الفجار والمناوئين للشريعة

رسالة الى اهل غزة

وظايف مصر والخليج ليوم الاثنين 30/12/2019