صلاح الدينالايوبى

- عاشتِ الأمةُ الإسلامية – قُبيل عماد الدين زنكي – ظروفًا مشابهة لوقتنا الحاضر أو أشـدَّ، دويلاتٌ هزيلة تدّعي – زورًا – الاستقلال والسيادة، حكامٌ يربطون مصيرَهم بمصير المحتل الصليبي، أنظمةٌ اعترفت بالمحتل وأقامت معه العلاقات والصلات، تعاون فجّ وتواطؤ مقيت بين المحتل الصليبي وحكام المنطقة العربية لوأدِ بذور المقاومة والتحرير، وهذا مثالٌ بسيط على تردي الأوضاع، وسوء الأحوال، واختلال الموازين:
استطاع حاكمُ الموصل الأميرُ "مودُود بن التونتكين " أن يكوِّن حلفًاً إسلاميًا لجهاد الصليبيين ، وأخذ الجيش يقترب من القدس؛ فخرج ملكُ القدس "بلدوين الأول" بسرعة في اتجاه "طبرية"، واختار "مودود" شبه الجزيرة المعروفة بالأقحوانة، بين نهري الأردن واليرموك، ونصب كمينًا لجيش "بلدوين"، وشاءَ اللهُ أن يدخلَ "بلدوين" في الكمين ، وشاء اللهُ أيضاً أنه لم يتركْ حاميةً تحمي ظهرَه ، ودارتِ الموقعةُ التي عُرفت في التاريخ بموقعة "الصنبرة" 13 محرم سنة 507 هــ ، وما هي إلا ساعات حتى سُحِق الجيش الصليبي، وقُتل ما يزيد على ألفي فارس، وغنم المسلمون غنائم هائلة ..
بعد هذا الفوز العظيم والأول على الصليبيين دخل الأميرُ مودود دمشق مع أميرها «طُغتكين» ليؤدي صلاة الجمعة فدبّر «طُغتكينُ» مؤامرة لقتله، ولما فرغوا من الصلاة وخرجوا إلى صحن الجامع ويدُ "مودود" في يد «طُغتكين» ، فجأة وثَبَ عليه «باطنيٌّ» فطعنه بخنجرٍ أربعَ طعناتٍ، وحُمِل "مودودُ" إلى بيت «طغتكين» وكان صائمًا فاجتهدوا به ليُفطرَ فرفضَ وقال: لا لقِيتُ اللهَ إلا صائمًا. ثم مات رحمه الله، ومن الطريفِ أن ملكَ القدس «بلدوين الأول» أرسلَ إلى «طغتكين» برسالةٍ يقول فيها: إن أمةً قتلتْ عميدَها يوم عيدِها وفي بيتِ معبودِها لحقيقٌ على الله أنْ يُبيدَها !!
أرسلَ السلطانُ "محمد السلجوقي" حملةً جديدةً بقيادة "بُرسق بن برسق"، ولم تَكَدْ الحملةُ تعبرُ الفراتَ حتى أجْمعَ الأمراءُ من المسلمين أو الصليبيين على مقاومتها!! والكلّ خائفٌ على عَرْشِهِ ومُلكِه وتاجِه، فمن جانبِ المسلمين قاومْها أميرُ ماردين وأميرُ حلب وأتابك دمشق، ومن جانب الصليبيين قاومْها أميرُ أنطاكية وأميرُ طرابلس، وعند "أفامية" شمال "حماة" احتشدتْ قواتُ حلبَ ودمشقَ مع قوات بيت المقدس وأنطاكية لمواجهة "برسق" الذي أدركَ صعوبةَ الموقف فآثرَ الانسحابَ.
وفي هذا المستنقعِ الآسن ، وفي تلك الظروف الوبيئة خرج عماد الدين زنكي ، فرفعَ راية الجهاد ، ووضعَ حجرَ الأساس ، وغرسَ الفسيلة ، ثم جاء بعدَه ولدُه الملك العادل نورُ الدين محمود فاستلم الراية وهي منشورة ، ورفع القواعد من البيت ، وسقى الفسيلةَ حتى صارت شَجَرَةً طَيِّبَةً أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ، فلمّا جاء صلاحُ الدين الأيوبي ، وجدَ رايةً خفّاقَةً فرفعَها ، وبيتًا شاهقًا فعلَّاه ، وشجرةً زاهيةً فقطف ثمارَها ، ليذهبَ عمادُ الدين زنكي – وحده – بصعوبةِ التأسيس ، وتعبِ الغرس، ومشقة البدء والشروع.
استُشــهد زنكي سنة 541 هــ وتم تحرير المسجد الأقصى عام 583 هـ ، وأقول بملءِ العين والفم: عمادُ الدين زنكي هو من حرَّر المسجد الأقصى وليس صلاح الدين ، مع كامل الاحترام والتقدير لبطل الإسلام وسلطان الفتوحات وأسد الجهاد صلاح الدين الأيوبي تغمد اللهُ الجميعَ بالرحمات.
وهنا نتساءل: كيف ظهرَ عماد الدين؟ كيف كانت بداياتُه؟ كيف بدأ لحْلَحةَ المشهد وشرعَ في التأسيس والبناء؟
 - أولًا: كان عمادُ الدين إصلاحًا للنظام ولم يكن انقلابًا عليه
لقد خرج زنكي من رحم النظام القائم، ونبتَ في أكنافه، وعلا في مناصبه، وترقّى في سلكِه الإداري حتى وصلَ إلى الإمارة. فلقد كانتِ الدولةُ السلجوقية دولةً مسلمةً، يحكمها حكامٌ مسلمون، وتسودُها شريعةُ الإسلام، فلا يحتاج زنكيُّ لتغيير نظام الحكم والانقلابِ عليه، وإنما إلى إصلاحه.
1 – والده أحد أقطاب الدولة
كان والدُه "قسيم الدولة آق سُنقر التركماني" من أصحاب السلطان "مَلِكْشاه" وأترابه ، فقد نشأ الرجلان وترعرعا معًا ، فلما تسلّم "مَلِكْشاه" الحكمَ ولّاه حلبَ وأعمالها كاللاذقية وكفر طاب ، ثم وسّع "قسيمُ الدولة" نطاقَ ولايتِه فاستولى على حمص 483 هــ ، وحصن أفاميه 484 هــ ، يقولُ ابنُ الأثير : ( وكان قسيمُ الدولة أحسنَ الأمراء سياسةً لرعيته ، وحفظًا لهم ، وكانت بلاده بين رُخصٍ عام ، وعدلٍ شامل ، وأمنٍ واسع ) ويقولُ ابنُ كثير : ( كان من أحسن الملوك سيرةً ، وأجودِهم سريرة ، وكانت الرعيةُ في أمنٍ وعدلٍ ورُخص ) ، دخل في صراعٍ مع حاكم دمشق "تُتُش بن ألب أرسلان" والتقى الجيشان عند تل السلطان قرب حلب سنة 487 هــ ، وهُزم "قسيم الدولة" ووقع أسيرًا ، فسأله "تُتُش" : لو ظفرتَ بي ما كنتَ صنعتَ بي ؟ فأجابَه في شجاعةٍ: كنتُ أرى قتلك. قال: فأنا أحكمُ عليك بما كنتَ تحكمُ عليَّ، فقتلَه صبرًا.
2 – إمارة واسط والبصرة
عَيَّن السلطانُ محمود قائدَه "آق سُنقر البرسقي" شِحْنة بغداد (أي رئيس الشرطة) عام 516 هــ وأمره باصطحاب "عماد الدين زنكي" وحفظِه والإحسان إليه لمكانة والده في الدولة، واشترك زنكي مع البرسقي في المعركة التي دارت ضد الأمير "دُبيس بن صدقة" أمير الحلة، ورأى البرسقي أن يَزيدَ من اعتماده على "زنكي" فولاه "واسط" وكلّفه مهمة الدفاع عنها، فأظهر كفاءةً وحزمًا، فأضاف إليه البصرة كي يَصدَّ عنها هجماتِ الأعراب، فانتقل إليها "زنكي" ليحققَ فيها ما أنجزه في واسط.
3 – شِحْنة العراق
أراد الخليفةُ المسترشدُ بالله العباسي الاستقلالَ بالعراق عن سلطان السلاجقة، فسار السلطانُ محمود إلى بغداد وأرسلَ إلى زنكي أن يحضرَ بنفسه ومعه قواته في البر والماء، فجمعَ السفنَ من البصرة وواسطٍ ولم يترك سفينةً إلا أخذها، فلما قارَبَ بغدادَ نَشرَ الأَعلامَ وأظهرَ السلاحَ، وأخرج بعضَ ما في السفن إلى البر فامتلأتِ الأرضُ والماء رجالًا وسلاحًا، ورأى الناس منظرًا عجيبًا، وعظُم ذلك في أعينِهم.. فلما تمَّ الصلحُ بين الخليفة والسلطان نظر الأخيرُ فيمن يَصلُح لشِحْنة بغداد فلم يجد أفضل من عماد الدين فولّاه شِحنة بغداد مضافًا إلى ما في يده من الأعمال والأقطاع. وهكذا نجدُ عماد الدين زنكي يترقى في مناصب الدولة، وسلكها الإداري حتى يصل إلى إمارة الموصل.

 - ثانيًا: جاء زنكي بناءً على رغبة الناس ومشورةِ أهل الحَل والعَقد
1 – ولاية الموصل
لما قُتل "آق سُنقر البرسقي" على يد الباطنية 520 هــ ، وكان قد رأى في منامه أن عِدةَ كلابٍ ثارتْ به فقَتلَ بعضَها ونال منه الباقي ما آذاه، وقصَّ رؤياه على أتباعِه، فأشاروا عليه بترك الخروج من داره عدة أيام، فقال: لا أترك الجُمع لشيء أبداً، فغلبوا على رأيه، ومنعوه من قصد الجمعة، فأخذ المصحف يقرأ فيه، فأول ما رأى: { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا } فركب إلى الجامع على عادته، وكان يصلي في الصف الأول فوثب عليه بضعة عشر باطنيًا، عدة الكلاب التي رآها، فجرحوه بالسكاكين، وجرح هو بيده منهم ثلاثة، وقُتل رحمه الله ، فتولى بعده ولدُه الأمير "عزالدين مسعود" فلم تطُلْ أيامُه وتوفي سنة 521 هــ ، فتولى أخٌ له صغير ، وقام بتدبير الإمارة مملوكٌ لأبيه يُقال له "جاولي" ، وأرسل جاولي إلى السلطان محمود يطلب منه تقريرَ البلاد على الطفل الصغير ، وكان رسولُ جاولي إلى السلطان هو القاضي بهاء الدين الشهرزوري وصلاح الدين محمد الياغيسياني ، فحضرا إلى السلطان ولكنهما كانا لا يَرضَيان عن جاولي ولا يَريانه أهلًا للولاية ، فاجتمعا بوزير السلطان وقالا له: "قد علمتَ أنت والسلطانُ السلجوقي أن ديارَ الجزيرة والشام قد تمكّن الفرنجُ منها، وقويت شوكتُهم بها، واستولوا على أكثرها، وقد أصبحت ولايتُهم من حدود ماردين إلى عريش مصر ما عدا البلاد الباقية بيد المسلمين، ولابد للبلاد من رجلٍ شهْمٍ شجاع ذي رأي وتجربةٍ يَذُب عنها ويحمي حوزتَها، وقد أنهينا الحال إليك لئلاً يجري خللٌ أو وَهَـنٌ على الإسلام والمسلمين، فنحصل نحن بالإثم من الله واللوم من السلطان". وقام الوزير "شرف الدين أنو شروان بن خالد" بتوصيل مطلبهما إلى السلطان محمود. فاقتنع السلطانُ برأيهما ،، وعندما استشارهما فيمن يفضلون لولاية الموصل؟؟ أشارا عليه بمجموعة من القادة المسلمين من بينهم عماد الدين زنكي حتى لا يشك في أمرهما، إلا أن السلطان أختار عماد الدين بإيعاز من وزيره أنو شروان وعينه والياً على الموصل، وهكذا وصل عمادُ الدين إلى منصب الإمارة.
2 – ولاية حلب
كانت حلب قد وقعت في حالة شديدة من الفوضى بعد وفاة "عزالدين مسعود البرسقي" وأصبحت ميدانًا للتنافس بين "سليمان بن عبد الجبار الأُرتُقي" و "إبراهيم بن رضوان السلجوقي" حتى طمع فيها الصليبيون "جوسلين الثاني" أمير الرها و"بوهيمند الثاني" أمير أنطاكيا ، وحتى عُقدت هدنة بين "سليمان" و"جوسلين" تنازل الأول بموجبها عن بعض المناطق الزراعية المحيطة بالجهات الغربية لحلب ، وهنا تدخل "زنكي" وفوَّت على الجميع الفرصة ، فمكّن لنفسه مستغلًا تقليد السلطان له بحكم الموصل والجزيرة والشام ، فسار نحو حلب ، وخرج أهلُ حلبَ إليه ، فالتقَوه واستبشروا بقدومه، وأظهروا من الفرح ما لا يعلمه إلا الله – كما يقول ابن الأثير – ودخل البلد واستولى عليه ورتّب أمورَه .
بل إنّ جماعةً من أهل دمشق كاتبوه أن يفتحوا له أبواب المدينة ويُسلموه إياها، فقال زنكي: لا أرى هذا رأيًا، فإن البلدَ ضيقةُ الطرق والشوارع، ومتى دخل العسكرُ لا يتمكنون من القتال فيه لضيقه، وربما كثر المقاتلون لنا، فنعجز عن مقاومتهم لأنهم يقاتلون على الأرض والسطوحات، وإذا دخلنا البلد اضُطررنا للتفرق لضيق المسالك فيطمع فينا أهله، كما يذكره أبو شامة في كتاب الروضتين.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فائدة تتعلق بالأقارب الفجار والمناوئين للشريعة

رسالة الى اهل غزة

وظايف مصر والخليج ليوم الاثنين 30/12/2019